تحيا مصر : قصة لـ مي عطاف: سِفْر الخيانة (طباعة)
قصة لـ مي عطاف: سِفْر الخيانة
آخر تحديث: الأربعاء 17/02/2021 06:56 م بوابة تحيا مصر



شيئان فقط يعودان بي إلى إنسانيتي الكتابة وشغلي بالخرز. فالكتابة ترسم لي أحبتي أحياء على الورق بتفاصيلهم كالرمش الذي نام على خد طفلي ولمعة عيون حبيبتي حين غافلتُها بكلمة حب ذكيّة، والخرز يجرني لدقائق الأمور، تلك التفاصيل الصغيرة العابرة التي حين نبتعد ندرك كم لونت حياتنا، حين أمسك الخيط والإبرة يكون عملي ذريعة لصمت أشربه كجرعة دواء، أركز على عمل دقيق كحبات الخرز الصغيرة تلك كمن يغوص في خباياه الدقيقة.
في البدء يأخذك العمل الروتيني، تضع حبات الخرز الصغيرة من لون واحد في فمك يصيبها ريقك المبلول بدمع تذرفه العين ورأفة منها لرجولتك لا تمرره في قناة الدمع بل في قنوات دمك، مرات تصبّهُ في ريقك ومرات تصبّهُ في قلبك وقد تفرزه عرقا برائحة الندم وأحيانا الاشتياق. بيدك الإبرة وأما لسانك يدفع بين شفتيك حبة خرز تحملها أصابعك بشكل آلي لتضعها في الإبرة، بعد عدة حركات آلية كتلك تحفظ أعضاءك عملها، أيضا للأعضاء ذاكرة، وأما أنت فتغرق دون سبيل للنجاة في صور من تحب في رائحتهم وحركاتهم وأصواتهم وعيونهم ويصبح كل شيء تحت مجهرك المشتاق، المشتاق كثيراً وجداً لهم .

لو لحظة واحدة تمسك بها يد طفلك، وتتنهد وتدفع عمرك الذي بات هباء الآن وكنتَ لتدفعه بكامل حضوره.. فقط لتشعر بملمس أصابعه. امرأتك التي تحب.. وتهبُّ من زوبعة الذاكرة رائحة جسدها.. فتقول كم احتاجُ من الأعمار لأدفعَ لقاء لحظة واحدة أرخي رأسي على عنقها فقط. تكملُ أعضاءك عملها وأما أنت فداخلك ثور يضرب يمنة ويسار.. يناطح هواء رئتيك ونبض قلبك ومجرى دمك ويضرب بلا هوادة معدتك فتنكسر للأمام ضاغطا علّ الثور يهدأ.. إنه ثور الحنين لمن خذلتهم بفعلتك وبلحظة قدَّرتَ لحياتهم قدراً آخر.

كانت لحظة شابَها دمٌ بحرارة عالية وكأنها بخَّرتْ أيّ منطق أو روية.. حين عدتُ للبيت لأخذ جوالي الذي نسيته، وجدت صاحبي في البيت يجلس مع زوجتي.. كانت تحضنه بذراعها وأما يدها فتحتوي يده.. أحبُّها وأحبُّ صديقي ولكن أجدادي حضروا بعصيَّهم بأسلحتهم في دمي كل الذين اعتبرتهم سلف محكوم بالهيجان قد هاجوا في رأسي.. لم اعدْ أرى سوى كلمة واحدة (الخيانة). كلمة يلزمها بحكم الشرع السائر في عروقنا.. يلزمها الشرف والموت.


لم تردعني آنا كارنينا التي قرأت يوما، وقلت لو خانتني زوجتي سأُطلِّق وفقط.. ولم يردعني حبي لخالتي ودفاعي عنها حين وصفوها بالخائنة لأنها سكبت كأس شاي لرجل عابر كاد يسقط من جوعه. كل الكتب التي قرأتها عن التسرع والتهور والأقدار والحب والخيانة والطباع صارت وراء ظهري وما صار أمامي مسدس تركه لي والدي لاستخدمه ذات ضرورة في وجه لص أو مجرم.. لأصبح أنا هو المجرم الذي سارعتُ بإطلاق النار على امرأتي وصديقي. وليبقى طفلي في سريره باكياً بكاء لا يشابه بكاءه حين دخل الحياة، بكاءه هذا كأني قطعت عنه حبل السرة المعلق بأمه الغارقة ببكاءها ودمها واخرجته من الحياة.

جلست على الكنبة أنظر عيونهما التي أفرغتُ فيها سواد غضبي، عيونهما المصابة بالمفاجأة والخيبة وبألم كثير.

صدحتْ أغنية فيروز: لملمت ذكرى لقاء الأمس بالهدب
ورحت أحضنها في الخافق التعب
يدٍ تلوح من غيب وتغمرني
بالدفء والضوء بالأقمار بالشهب.

كانت رنة لجوال صديقي الذي قتلت، فتحتُ الخط حين شاهدتُ اسم صديقنا المشترك لأخبره عما فعلاه بي وما فعلته، وما أن سمع «ألو» حتى سبقني إلى نحت أضلعي سهاماً في القلب حين قال: توقعت أن يكون عندكم، كنتُ في بيته نشرب القهوة حين اتصلت أخته من الخارج لتخبره بوفاة زوجته، أنت تعلم أن مرضها وسفرها جعلاه منهار. قال إن البيت أطبق على صدره وغادر.

كان يحدثني والخجل والألم يسحبان روحي.. وكنت أنظر لأغلى ما عندي جثتين على الأرض، اقتربت منهما، أشحد حركة صغيرة من أحدهما، عسى حركة صغيرة تبقي على أمل صغير، ربما أعتذر لهما فأقتل نفسي، لكن بكاء طفلي شدني لمقلب آخر.

اتصلت بأخي ليأتي مسرعاً، اتصلت بالشرطة بنداءٍ من ذاك الذي تعبتُ على نشأته في داخلي واستيقظ الآن ليختار عقاباً فورياً فمنع عينيَّ أن ترى صغيري ربما لمرة أخيرة، ارتميت عليهما ودعتهما لقبر حفرته لهما بيدي.. وصل أخي، أوصيته بطفلي وأخذتني الشرطة. خففوا عقوبتي كعقوبة شرف، لكني رفضت، أيّ شرف لي وأنا أمنح زوجتي وصديقي وصمة عار، أي شرف لي سيهدي لولدي كذباً يقوم على أم خائنة.

كان عليهم أن يحاكمونني بألف تهمة أولها القاتل وثانيها الخائن، لقد خنت معرفتي بهم وصداقتنا وخنت حبهم لي وحبي لهم وتلك الثقة التي تبادلناها، ألمّ نقضي أياماً ونحن ننام جميعاً مع أولادنا في غرفة واحدة، كيف خنتُ سهراتنا وضحكنا وحزننا وفطورنا الجماعي، ألم تربت زوجته على كتفي حين كانت ترى توتراً في عيني.

كان على عمري المتبقي أن يعيش وحدته، مطحوناً بين رحى حبيبتي وصديقي، كان على أن أرتجف ليلا من صورهما المتلاحقة، وأن ترتفع حرارتي بما يعادل حجم حرارة الدفء الذي دثراني به، أن أخالط برازي لأكره أجدادي بعصيِّهم وأسلحتهم النتنة الموسومة بشرف كاذب، أن أتبول على نفسي لأشم رائحة الطلقات التي خرجت بفعل يدي، أن أتقيأ مراراً ومراراً كل الجذور الفاسدة التي ورثتها.

لم أقرأ كتاباً مذ دخلت السجن، لأني كنت خائنا للكتب أيضاً حين غيَّبْتُها وأحضرتُ في لحظةِ الحقيقةِ شوارب وعمامات وجلباب. طلبتُ دفاتر وخرز، في دفتري أعيدهما إليكم أحياء تحبونهما كما أحببتهم، وأرجوكم أحبوهم أكثر.

وفي الخرز أشبع روحي بتفاصيلهما لأعذبها، حتى تصبح كمخرز تدقُّ أوتاده في روحي.